مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون

القاعدة الأساسية هي أن الجهل بالقانون لا يحول دون تطبيقه على من يجهله .
فبمجرد صدور القاعدة القانونية مستوفية لشرائط وجودها و نفاذها فإنها تسري في حق كافة الأشخاص المخاطبين بأحكامها , سواء علموا بها أم لم يعلموا , حيث لا يقبل من أي شخص كان الاحتجاج بعدم العلم بها للإفلات من تطبيق حكمها , إذ لا يعذر أحد لجهله أحكام القانون .
والقاعدة المذكورة أعلاه هي قاعدة عامة تسري على الأشخاص كافة بغض النظر عن السن أو الجنسية , وبالتالي لا نذهب مع ما أخذ به بعض الفقهاء من أن القانون لا يشمل بخطابه جميع الأفراد , بل يشمل الأفراد كاملي الإدراك فقط , إذ يرى هؤلاء أنه من غير المعقول أن يتجه القانون بخطابه إلى عديمي الإدراك , كالمجنون أو المعتوه أو الصغير غير المميز , فهؤلاء ليست لديهم القدرة على فهم أحكامه أو العلم بها .
والرأي الصحيح هو أن القانون يمتد ليشمل جميع الأشخاص من المخاطبين بحكمه , ولو كانوا يجهلونه , وعليه فإنه يشمل عديمي التمييز والإدراك مع مراعاة أوضاعهم الخاصة , حيث يضع لهم أحكاماً خاصة كعدم العقاب علـى الجرائم التي يرتكبونها وبطلان العقود التي يبرمونها , على أن تظل قائمة بالنسـبة لهم التفرقة الجوهرية بين الأعمال المشـروعة والأعمال غير المشــروعة , وهو ما يظهر أثره في إمكانية الحكم بالتعويض عليهم من أعمالهم غير المشــروعة .
وبناءً على هذه القاعدة لا يعذر أحد بجهله القانون لأي سبب كان , فلا يجوز له الاحتجاج بعدم العلم بالقانون لأنه كان متغيباً خارج القطر أثناء نشوء القانون , أو أنه كان مريضاً , أو أنه 
أمياً لا يستطيع القراءة .


كما لا يجوز للأجنبي أن يحتج بجهله للقانون , فلا يقبل من إنجليزي مثلاً أتى إلى سوريا وارتكب مخالفة سير بسيارته على يسار الطريق أن يحتج أن أنظمة المرور تستلزم ذلك في إنكلترا وأنه يجهل أن أنظمة المرور في سوريا تقتضي السير على يمين الطريق .
نتساءل هنا عن الأساس الذي تقوم عليه قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون ؟


يؤسس بعض الفقهاء هذه القاعدة على أساس قواعد العدل , فالعدل الخاص يتطلب المساواة التامة في معاملة المخاطبين بأحكام القواعد القانونية , فلا يفرق بينهم في وجوب الخضوع لها , أو يعفي بعضهم من التقيد بها . وهذه المساواة أمام القانون تحقق كذلك العدل العام والصالح العام بما يؤكد من سيادة النظام والقانون في المجتمع .
وهناك من اعتبر أن هذه القاعدة تقوم على قرينة تفترض علم الأفراد بالقانون , وهي قرينة قاطعة لا يجوز إثبات ما يخالفها و مبناها الصالح العام , وبغيرها يتعطل تطبيق القانون . وهناك من يؤسسها على أساس قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس .
ولعل مبدأ المساواة أمام القانون خير ما تؤسس عليه هذه القاعدة , فالقانون هو مجموعة قواعد عامة ومجردة يجب أن تطبق على المجتمع , ولا يجوز بالتالي لأي شخص أن يحتج بجهله للقانون للإفلات من حكمه لظروف خاصة به .


ـ شمول هذا المبدأ:

مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون ليس قاصراً على القواعد القانونية التي مصدرها التشريع وحده , بل إن هذا المبدأ ينطبق على كل القواعد القانونية الرسمية أياً كان مصدرها .
فالقواعد القانونية العرفية و القواعد القانونية التي مصدرها الدين تعتبر أيضاً من القواعد التي لا يجوز للأفراد الإفلات من حكمها بالاعتذار بجهلهم لها .
وبالتالي فإن مبدأ المساواة أمام القانون يفترض حتماً عدم جواز الاعتذار بجهل القانون من قبل الأفراد أياً كان مصدر القاعدة القانونية .


كما أن قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون لا تقتصر على القواعد القانونية الآمرة دون القواعد القانونية المكملة أو المفسرة , كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء , إذ ليس هناك ما يبرر هذه التفرقة ما دامت القاعدة ملزمة وهو إلزام ذاتي منبعث منها ومن وجودها لا من عوامل خارجة عنها كعامل العلم بها .
و كما ذكرنا سابقاً فإن صفة الإلزام متوافرة في القواعد الآمرة والقواعد القانونية المكملة على السواء , والإلزام بمضمون القاعدة القانونية ينطوي على معنى العلم بهذا المضمون .


كما أن القول بغير ذلك لا يتفق مع طبيعة القواعد المكملة , حيث لا تطبق إلا في حال سكوت المتعاقدين عن مخالفتها , إذ قد يكون سكوتهما عن جهل بأحكامها , ومع ذلك لا يسـتطيعان الإفلات من حكمها بحجة هذا الجهل , لأنه بهذا السـكوت يتحقق شرط انطباقها عليهما .
فلو أجيز للأفراد التمسك بجهلهم للقواعد المكملة للإفلات من حكمها لفقدت هذه القواعد أهميتها في التطبيق , إذ كما أشرنا لا تنطبق هذه القواعد إلا في حالة سكوت المتعاقدين عن مخالفتها , وهنا يستطيع صاحب المصلحة من المتعاقدين في عدم تطبيقها أن يدفع بجهله بأحكامها ويفسر السكوت على هذا الأساس , وهنا نكون قد وقعنا في فراغ قانوني كبير , فمن جهة لا توجد إرادة للمتعاقدين , ومن جهة أخرى يمتنع تطبق القواعد المكملة .
 
و إذا كانت قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون تمتد إلى القواعد القانونية الآمرة والمكملة وإلى القواعد العرفية والقواعد القانونية الدينية , فإننا نتساءل فيما إذا كانت تمتد إلى القانون الأجنبي , إذ أن القانون الواجب التطبيق على المنازعات ذات العنصر الأجنبي قد يكون قانوناً أجنبياً وليس القانون الوطني , وذلك في ضوء ما تقدره قواعد القانون الدولي الخاص وهي التي تسمى بقواعد الإسناد ؟؟؟
يمكن هنا أن نذكر بعض القواعد الدولية الخاصة التي وردت في القانون المدني , كالمادة
/ 13 /من القانون المدني السوري التي تنص على أنه : " يرجع في الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين " .
والمادة / 15 / من القانون المدني السوري التي تنص على أنه : " في الأحوال المنصوص عليها في المادتين السابقتين إذا كان أحد الزوجين سورياً وقت انعقاد الزواج , يسري القانون السوري وحده فيما عدا شرط الأهلية للزواج " .
في الواقع إن الأمر لا يختلف عن القواعد القانونية الوطنية , إذ لا يجوز للأفراد الاعتذار بجهل القانون الأجنبي , وإن كانت هذه القاعدة غير مطلقة , إذ يرد عليها بعض الاستثناءات التي سنذكرها في الفقرة اللاحقة .
وعليه إن القانون يطبق على جميع الأشخاص المخاطبين به علموا به , أم لم يعلموا , والقول بغير ذلك سيؤدي إلى الوقوع بالفوضى وعدم الاستقرار .

 

الاستثناء من مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون :


تعتبر قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون من المبادئ العامة للقانون , و رغم كونها قاعدة أساسية إلا أنها ليست قاعدة مطلقة , إذ من غير المقبول إسباغ صفة الإطلاق على أي مبدأ من مبادئ القانون حتى ولو كان هذا المبدأ متصلاً بجوهر القانون , فالعدل ذاته قال عنه بعض فقهاء الرومان أن المبالغة فيه تؤدي إلى الظلم .
وعليه يمكن القول : إنه يجوز الاعتذار بالجهل بالقانون على سبيل الاستثناء , إذ يجوز الاعتذار بجهل القانون في حالة قيام قوة قاهرة , تحول دون وصول الجريدة الرسمية إلى بعض مناطق الدولة نتيجة عزلها عزلاً تاماً عن باقي مناطق الدولة , مثل وقوع فيضان يؤدي لانقطاع الاتصال بكافة الوسائل بهذا الإقليم , أو وقوع هذا الإقليم تحت الاحتلال الأجنبي .
و تبرير هذا الاستثناء يقوم على أساس أن وصول الجريدة الرسمية إلى مناطق الدولة المختلفة يتحقق معه إتاحة الفرصة لإمكانية العلم بالقاعدة القانونية , فإذا لم يتمكن الأفراد من هذا العلم لسبب من الأسباب يكون من المنطقي والعدل أن يسمح لهم بالاعتذار بجهلهم للقاعدة القانونية .
 ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الاستثناء قاصر على القاعدة القانونية التي مصدرها النصوص التشريعية , إذ هي وحدها التي تنشر في الجريدة الرسمية ويفترض علم الأفراد بهذا النشر .
وإذا كانت حالة القوة القاهرة مسلماً بها فقهاً وقضاءً فإن هناك بعض الحالات احتدم الخلاف الفقهي حولها , إذ هناك من اعتبر أن هذه الحالات تشكل أيضاً استثناءً من قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون , وهناك من الفقهاء من اعترض على هذا الموقف .
ونعرض بعض هذه الحالات فيما يلي :


1- جواز دفع المسؤولية الجزائية بسبب الجهل بقوانين غير جزائية :

فهناك من يقيم تفريقاً بين القوانين الجنائية , والقوانين غير الجنائية , و بالتالي يرى قصر قاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل القانون على الأولى دون الثانية , و يستند في رأيه إلى ما ذهب إليه القضاء الفرنسي , حيث قضى بعدم عقاب الشخص الذي عثر على كنز في أرض الغير فاستولى عليه كله واحتفظ به لنفسه جاهلاً حكم القاضي المدني الذي يقضي بتقسيم الكنز مناصفة بينه وبين مالك الأرض . و صدرت أحكام أخرى قضت ببراءة الزوج الذي يتزوج امرأة ثانية , معتقداً عن جهل بأحكام القانون المدني أنه أصبح مطلقاً .
و كذلك ما ذهبت إليه محكمة النقض المصرية عندما قضت أنه من المقرر أن الجهل بأحكام أو قواعد قانون آخر غير قانون العقوباتأو الخطأ فيها يجعل الفعل المرتكب غير مؤثم .
لذلك اعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن هذا الأمر يشكل استثناء هاماً على قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون .
ولكن هذا الرأي منتقد , حيث أن امتناع المسؤولية الجزائية في حالة الجهل بقوانين غير جزائية تؤسس عليها العقوبة , لا يشكل استثناء من مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون , بل تظل هذه القاعدة رغم ذلك مطبقة في حقه .
لأن امتناع المسؤولية في هذه الحالة إنما يرجع إلى انتفاء القصد الجزائي , وهو ركن أساسي من أركان الجريمة , إذ لا يتحقق هذا القصد في هذه الحالة إلا بالعلم بحكم قاعدة معينة غير جزائية , و ما دام مرتكب الجريمة يجهل هذا الحكم يعتبر هذا القصد متخلفاً , فتتخلف المسؤولية الجزائية تبعاً لذلك .


2- إبطال العقد لغلط في القانون :

جاء في المادة / 133 / من القانون المدني السوري أنه : " يكون العقد قابلاً للإبطال لغلط في القانون , إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع طبقاً للمادتين السابقتين , هذا ما لم يقض القانون بغير ذلك " .
ذهب بعض الفقهاء إلى أن مضمون هذه المادة استثناء على قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون , ذلك أن إجازة إبطال العقد نتيجة لما وقع فيه أحد المتعاقدين من غلط في القانون , يشكل خروجاً على القاعدة الأساسية السابقة .
فالوارث مثلاً الذي يبيع حصته من التركة معتقداً أن له الربع , في حين أن نصيبه الحقيقي هو نصف التركة طبقاً للقواعد التي تحكم توزيع الإرث , يكون له الحق في إبطال عقد البيع للغلط الذي شاب إرادته في قدر الشيء المباع .


غير أن هناك بعض الفقهاء اعتبروا أن الجهل بالقانون ليس هو الغلط في القانون , فالجهل بالقانون هو عدم العلم بأحكامه , أما الغلط في القانون فمعناه أن يتوهم الشخص وجود الحكم على نحو معين ثم يتبين له أنه ليس كذلك , ففي هذه الحالة يجوز لمن وقع في غلط أن يطلب إبطال العقد إذا كان هذا الغلط هو الدافع الرئيسي إلى التعاقد .
فإذا باع وارث نصيبه في التركة معتقداً أنه يرث الربع مع أن القانون يقرر أن نصيبه هو النصف , ففي هذه الحالة يعتبر الوارث قد وقع في غلط في القانون يجيز له أن يطلب إبطال عقد البيع متى توافرت شروط الغلط , فإذا تمسك بإبطال البيع على أساس الغلط في القانون فإنه تمسك بالقاعدة التي كان يجهلها وهي أنه يستحق النصف طبقاً للقانون , ولا يطلب استبعاد حكمها بالنسبة له كما هو الحال بالنسبة لمبدأ الاعتذار بالجهل بالقانون , ومن أمثلته أن يدعي الشخص أنه لا يعلم بصدور قانون ينظم الإرث .
و نؤكد على ضرورة التفريق بين فكرة الاعتذار بجهل القانون , وفكرة الغلط في القانون , ذلك أن فكرة الغلط في القانون لا تكفي في حد ذاتها لكي ترتب آثارها , بل لا بد من توافر شروط معينة أخرى نص عليها القانون , وإذا كان من الممكن القول بجواز الاحتجاج بالجهل بالقانون لوقوع المتعاقد في غلط , لما كان هناك داع لوجوب تلك الشروط , ولأصبح من الممكن الاحتجاج به بمجرد وقوعه دون حاجة للتحقق من إثبات وجود الشروط الأخرى التي نص عليها القانون .


3 ـ عندما يعطي نص القانون إمكانية التمسك بالجهل بالقانون :

أخيراً يمكن القول إن نص القانون نفسه قد يعطي إمكانية التمسك بالجهل بالقانون بالنسبة لحالة محددة على سبيل الحصر , وهنا لا بد من تطبيق هذا الاستثناء من قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون , ومثال ذلك :
أ ـ ما ورد في الفقرة الأولى من المادة / 12/ من القانون المدني السـوري والتي تنص على أن : 
" الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم يسري عليها قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم , ومع ذلك ففي التصرفات المالية التي تعقد في سوريا وتترتب آثارها فيها , إذا كان أحد الطرفينأجنبياً ناقص الأهلية , وكان نقص الأهلية يرجع إلى سبب فيه خفاء لا يسهل على الطرف الآخر تبينه , فإن هذا السبب لا يؤثر في أهليته " .
 ب ـو أيضاً فقد نص قانون العقوبات السوري في المادة / 222 / على أنه :
" 1- لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله القانون الجزائي أو تأويله إياه تأويلاً مغلوطاً .
 2- غير أنه يعد مانعاً للعقاب :
أ- الجهل بقانون جديد إذا اقترف الجرم في خلال الأيام الثلاثة التي تلت نشره .
ب- جهل الأجنبي الذي قدم إلى سورية منذ ثلاثة أيام على الأكثر بوجود جريمة مخالفة للقوانين الوضعية لا تعاقب عليها قوانين بلاده أو قوانين البلاد التي كان مقيماً فيها " .
فهنا القانون نفسه يقر بصحة الاعتذار بجهل القانون في هذه الحالة , لذلك يعمل بهذا الحكم بناءّ على كونه قانوناً .
نخلص إلى القول إنه بالرغم من أهمية قاعدة عدم جواز الاحتجاج بجهل القانون فإنها ليست قاعدة مطلقة , بل قاعدة نسبية ترد عليها بعض الاستثناءات .